فصل: تفسير الآيات (11- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حق الميت وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر والله أعلم.
فصل:
قال: ولا يستطاع إلا بثلاثة أشياء: بتعظيم الحقوق ومقت الشح والرغبة في مكارم الأخلاق ذكر ما يعين على الإيثار فيبعث عليه وهو ثلاثة أشياء تعظيم الحقوق فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها الثاني: مقت الشح فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق وبحسب رغبته فيها: يكون إيثاره لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: إيثار رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن إيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولى العزم منهم وأعلاها لنبينا وعليهم.
فإنه قاوم العالم كله وتجرد للدعوة إلى الله واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصورا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه حتى ظهر دين الله على كل دين وقامت حجته على العالمين وتمت نعمته على المؤمنين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله: وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن فإن المحنة تعظم فيه أولا ليتأخر من ليس من أهله فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحا وصارت تلك المؤن عونا وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة فإنه ما آثر عبد مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق وتحمل ثقل ذلك ومؤنته وصبر على محنته: إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته فانقلبت مخاوفه أمانا ومظان عطبه نجاة وتعبه راحة ومؤنته معونة وبليته نعمة ومحنته منحة وسخطه رضا فيا خيبة المتخلفين ويا ذلة المتهيبين هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يسخط عليه من آثر رضاه ويخذله من جهته ويجعل محنته على يديه فيعود حامده ذاما ومن آثر مرضاته ساخطا فلا على مقصوده منهم حصل ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل وهذا أعجز الخلق وأحمقهم هذا مع أن رضا الخلق: لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل بل لابد من سخطهم عليك فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخوا عليك والله عنك غير راض فإذا كان سخطهم لابد منه على التقديرين فآثر سخطهم الذي ينال به رضي الله فإن هم رضوا عنك بعد هذا وإلا فأهون شيء رضا من لا ينفعك رضاه ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك فإن ضرك في أمر يسير في الدنيا فمضرة سخط الله أعظم وأعظم وخاصة العقل: احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما فوازن بعقلك ثم انظر أي الأمرين وأيهما خير فآثره وأيهما شر فابعد عنه فهذا برهان قطعي ضروري في إيثار رضي الله على رضا الخلق هذا مع أنه إذا آثر رضا الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه قال بعض السلف: لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها وقال الشافعي رضي الله عنه: رضا الناس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه ومعلوم: أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن أبو فراس في هذا المعنى إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله إذ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعا ولا ضرا:
فليتك تحلو والحياة مريرة ** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر ** وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين ** وكل الذي فوق التراب تراب

ثم ذكر الشيخ رحمه الله ما يستطاع به هذا الإيثار العظيم الشأن فقال: ويستطاع هذا بثلاثة أشياء: بطيب العود وحسن الإسلام وقوة الصبر من المعلوم: أن المؤثر لرضا الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولابد هذه سنة الله في خلقه وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس والقائمين بدين الله الذابين عن كتابه وسنة رسوله عندهم.
فمن آثر رضا الله فلابد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وغرثاهم وجهالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة وكل من يخالف هديه هديه فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله عامل على سماع خطاب: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقله الجبال ومن عقد عزيمة صبره محكم لا تحله المحن والشدائد والمخاوف.
قلت: وملاك ذلك أمران: الزهد في الحياة والثناء فما ضعف من ضعف وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمهم له فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها وانغمس حينئذ في العساكر وملاك هذين الشيئين بشيئين: صحة اليقين وقوة المحبة وملاك هذين بشيئين أيضا: بصدق اللجإ والطلب والتصدي للأسباب الموصلة إليهما فإلى هاهنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم والتوفيق بعد بيد من أزمة الأمور كلها بيده {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30-31]
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: إيثار إيثار الله فإن الخوض في الإيثار.
دعوى في الملك ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ثم غيبتك عن الترك يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت فكأنك سلمت الإيثار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر حقيقة إذ هو المعطي حقيقة.
ثم بين الشيخ السبب الذي يصح به نسبة الإيثار إلى الله وترك نسبته إلى نفسك فقال: فإن الخوض في الإيثار: دعوى في الملك فإذا ادعى العبد: أنه مؤثر فقد ادعى ملك ما آثر به غيره والملك في الحقيقة: إنما هو لله الذي له كل شيء فإذا خرج العبد عن دعوى الملك فقد آثر إيثار الله وهو إعطاؤه على إيثار نفسه وشهد أن الله وحده هو المؤثر بملكه وأما من لا ملك له: فأي إيثار له وقوله: ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه: بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لابد من الخروج عنها وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك فإن في شهودك ذلك ورؤيتك له: دعوى أخرى هي أعظم من دعوى الملك وهي أنك ادعيت أن لك شيئا آثرت به الله وقدمته على نفسك فيه بعد أن كان لك وهذه الدعوى أصعب من الأولى فإنها تتضمن ما تضمنته الأولى من الملك وتزيد عليها برؤية الإيثار به فالأول: مدع للملك مؤثر به وهذا مدع للملك ومدع للإيثار به فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار بل الله هو الذي استأثر به دونك فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إياها بنفسه لا بإيجاب العبد إياها له قوله: ثم غيبتك عن الترك يريد: أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية: بقيت عليك بقية أخرى وهي رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك وهي دعوى كاذبة إذ ليس للعبد شيء من الأمر ولا بيده فعل ولا ترك وإنما الأمر كله لله وقد تبين في الكشف والشهود والعلم والمعرفة: أن العبد ليس له شيء أصلا والعبد لا يملك حقيقة إنما المالك بالحقيقة سيده فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها لله ومنه وإليه سواء اختار العبد ذلك وعلمه أو جهله أم لم يختره فالأثرة واقعة كره العبد أم رضي فإنها استئثار المالك الحق بملكه تعالى وقد فهمت من هذا قوله: فإن الأثرة تحسن طوعا وتصح كرها والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 14):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقولونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دل على أن هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متممًا للقصة مخاطبًا لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم معجبًا من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان: {ألم تر} أي تعلم علمًا هو في قوة الجزم به كالمشاهد يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: {إلى الذين نافقوا} أي أظهروا غير ما أضمروا، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من فعل الضب في نافقائه وقاصعائه، وصور حالهم بقوله: {يقولون لإخوانهم} أي من الموالاة بالضلالة.
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال: {الذي كفروا} أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال: {من أهل الكتاب} وهم بنو النضير هؤلاء، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم: {لئن أخرجتم} أي من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا {لنخرجن معكم} فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألًا وكل بمنطقهم.
ولما كان من المعلوم أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين، وكان من المعلوم- أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحسانًا إليهم، وكان تجويز بني النضير موهنًا لذلك، قالوا مؤكدين للكون معهم: {ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم {أحدًا} أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين، وأكدوا بقولهم: {أبدًا} أي ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب.
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألًا قاضيًا عليهم، أتبعوه قولهم: {وإن قوتلتم} أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا {لننصرنكم} فالآية من الاحتباك: ذكر الإخراج أولًا دليلًا على ضده ثانيًا، والقتال ثانيًا دليلًا على حذف ضده أولًا، ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير: «اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشرًا، فمن رئي بعد لك منكم ضربت عنقه» فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم.